كتاب عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفينالمكتبة التجريبية

كتاب عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين

عاش شلاير ماخر "1768-1834" عصرَ الأسئلةِ الفلسفية واللاهوتية الكبرى، فقد تعرّضتْ الأدلةُ الفلسفيةُ على وجودِ الله إلى نقدٍ تقويضي في فلسفة ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرِهما من فلاسفةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النقدُ الذي تعرّض له الكتابُ المقدّس شديداً، بعد تعارُضِ بعضِ ما جاء فيه مع الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة. وظهرتْ آراءُ لمفكرين ترى أن منشأَ الحاجة البشرية للدين عواملُ معروفةٌ بوسع الإنسان التغلب عليها، ومن ثمّ الاستغناء عن الدين. وأعلت الرُّومانْسِيَّةُ من مكانةِ المشاعر والعواطف والخيال في الأدب والفن، ولم تعبأْ بالعقل، ولم تكترثْ بالتقنيات والمعايير الكلاسيكية، ودعتْ للعودةِ إلى الطبيعة والانغمارِ فيها واتخاذِها موضوعاً للكتابة. وشدّدتْ على الانهمامِ بالذات، والبوح بما يختبئ في أعماقها من ألم وأمل، وحزن وفرح، وكآبة ومسرة. ولم تجدْ حاجةً لالتزام الأديب بالمعايير الأخلاقية، فليس بالضرورة أن يكون الأديبُ أخلاقياً. وكانتْ حياةُ الإنسان الأوروبي في ذلك الزمان قلقةً كئيبةً حزينة، إثر شدّة النزاعات، وما تركته الثورةُ الفرنسية من آثار وتداعيات. لم يكن للدين أمامَ هذه الموجاتِ الحادّةِ من النقد، وضراوةِ الألم الذي يجتاحُ حياة الفرد والجماعة، أن يتمسكَ بمحاججاته الموروثة، ويكرّرَ اللاهوتُ دفاعاتِه المعروفةَ، بل كانت هناك ضروراتٌ تفرض على الدين أنْ يتحدثَ لغةً جديدة، يتخطى فيها منطقَ جداليات عقله اللاهوتي الذي تجاوزه العقلُ الفلسفي، ويعيدَ النظرَ في تفسير مسلّمات كتابه المقدّس التي زلزل شيئاً منها العلمُ الحديث. في هذا الفضاء الروحي والفكري، قدّم شلاير ماخر فَهمَه للدين، وهو الخبيرُ بالفَهم الذي كان أولَ من فتحَ الطريقَ لتدشين مسارٍ جديدٍ للهرمنيوطيقا بوصفها "فهماً للفهم". لم يتمسكْ شلاير ماخر في فهم الدين بالعقل لنقض أدلّة العقل، ولم يتمسكْ بالعلم لنقض نظريات العلم، وإنما اجترح طريقاً يتحدّث لغةً تحاكي لغةَ الشعراء، وتستوحي مخيّلةَ الفنانين، لاكتشافِ جوهر الدين وتفسيرِ وظيفتِه.كان يهمُّه التوغلُ إلى مديات عميقة في الذات البشرية، وتحليلُ طبيعة الحزن والألم واللامعنى الذي يُشقيها، وما الذي يمكن أنْ يقدّمه الدينُ لها.كان يبحث عن ذلك الدين الذي يشفي الروحَ من أمراضها، وليس ذلك الدين الذي يُمرِض الروح. في هذا الفضاء العقلي والروحي، الذي تبلبلَ فيه تفكيرُ النخبة بشكوك مختلفة واستفهامات حائرة، ألّفَ شلاير ماخر: "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، وأصدره عام 1799، وهو كما يشي عنوانُه كتابٌ موجّه للمثقفين في عصره، ممن يراهم يحتقرون الدين. وترسَّمَ فيه نهجاً خاصاً، تتناغم فيه رؤيا شاعريةٌ للدين ببيانات مكثّفة صاغها بأسلوبه المتدفق الغزير، وصنّفها في خمسة خطابات تتناول خمسةَ موضوعات، تكلّم فيها بلغة تجمع بين الذوق والكَشْف والحدْس والتأمّل. لغة تحضر فيها صورةُ الذات وتتجلى بصيرتُها الروحية أكثر من أيّ شيء آخر. كتاب شلاير ماخر كتاب إيماني، والكتب من هذا النوع عادة ما يحضر فيها البيانُ ويشحُّ فيها البرهان. إنه كتاب يستمع اليه القلبُ قبل أنْ تصغي إليه الأذن، يخاطب المشاعرَ قبل أنْ يحاججَ العقل. يطغى على مساحات واسعة منه أسلوبٌ وجدانيٌّ، وكأنّه قصائد منثورة تلوّنها روحانيةٌ متوهّجة، بل كأنّه نصوصٌ مقدّسة، مشبوبةٌ بالعاطفةِ وتأجيجِ المشاعر، إذ يتحسَّسُ مَنْ يستمعُ إليها صوتَ الله يتردّد في ألحان عباراتها كأوتار قيثارة تعزفُ عليها أناملُ عازفٍ محترف. ومثلُ هذا اللون من الكتابة لا ينشغل بالأدلة، بل ينشد إيقاظَ الضمير، وإثارةَ العواطف. هذا الكتابُ تعبيرٌ عن خبرة روح تحاكي خبرةَ الأرواح الحرة المشبعة بمكاشفات صوفية، إنه كلوحة يرتسم فيها سحرُ كلمات عميقة، المُضمَرُ فيها أعمقُ دلالةً من الظاهر، والخفيُّ فيها أعمقُ غوايةً من الجليّ، والجذوةُ فيها أعمقُ حرارةً من اللّهب. إيقاعُها يتناغم فيه ما يبوحُ به قلبُ مؤمن، وما يرسمه ضميرُ عاشق، وما ينشده إنسانٌ متيّمٌ بالحبّ والخير والجمال. إنه كتابٌ ليس لأولئك القرّاء الذين لا يقرؤون إلّا ما يقولُه العقلُ المحْض والعلم، وإنما هو لنمطٍ خاصّ من القرّاء الذين تطربهم مثلُ هذه النصوص، إنهم الجائعةُ أرواحُهم إلى ما يشبعها، والظامئةُ قلوبُهم إلى ما يرويها، والتوّاقةُ مشاعرُهم إلى ما يشحذها. الكتاب الحقيقي هو ما يبرَعُ في كتابةِ تاريخِه الخاص، الذي يخترق فيه قيودَ الزمان، ويتخطى فيه حدودَ البيئة، ويتغلب على مضايق المكان. فيمسي كتابًا عالميًا يخاطبنا اليومَ مثلما خاطب مواطنيه في عصره وبيئته الدينية والثقافية أمس. وحسب كتاب شلاير ماخر أنّ كاتبَه كان رائياً لا يروي روايةَ الفلسفة واللاهوت والعلم لزمانه، بل كان يروي سيرةَ القلب، يروي رؤيةَ البصيرة، وأشواقَ الروح. وحسبه أنه كان تجلياً للحياة الروحية لراءٍ يتبصّر خبراتِ الروح، فيصهرها بما يتذوقه القلب، ويلوّنها بما يُلهب المشاعر، ويسكب كل ذلك على الورق. إن شلاير ماخر، وإنْ كتب كتابَه هذا بمشاعر الشاعر، لكنّه يعترف بموازاة تلك المشاعر بشيء للعقل. فهو في الوقت الذي يشدّد فيه على استغناء الدين عن العقل والمنطق، إلا أنه يشير إلى أنّ الدينَ لا يضادّ العقل، نستمع إليه يقول: "فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية"[2]. يتلخص جوهرُ الدين وتتجلّى حقيقةُ التدين عند شلاير ماخر بالتجربة الدينية. وكأن الدينَ بمثابة المحار الذي يكتنز ما هو لؤلؤ داخلَ أصدافه، أو بمثابة الجوز الذي يحتوي ما هو لبّ داخل قشوره. فكلُّ "الأسرار المقدسة" مودعةٌ هناك في ذلك اللبّ والجوهر، وكلٌّ الشعائر والطقوس توقظ تلك "البذرةَ النائمةَ" وتستنهض الروحَ. وكلُّ ما في الدين، ما خلا الجوهر، شيءٌ ليس مطلوباً إلّا لكونه وسيلةً لتلك الحقيقة الباطنية التي تنغمس في الأعماق. يشرح ذلك بقوله: "إنني كإنسان عادي أحدّثكم عن الأسرار المقدَّسة والشيَع الغامضة للبشرية، من وجهة نظري، عن منطوق يكشف ذلك المتواري الذي أغراني للبحث عنه عندما كنت في عنفوان الشباب، عن تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في أعماقي، التي تشعرني بوجودي منذ أن بدأت بتحسّس مفاصل الحياة وقيمة الفكر، عمَّا سيبقى مقامه هو الأعلى في داخلي إلى الأبد، على اختلاف طرائق تبدّل الزمن وعوامل حراك الإنسانية. إنَّ حديثي في هذا المقام لم ينبعث من قرارات عقلانية، ولا ينبع من شعور بالأمل أو الخوف، إلا أنَّه مع ذلك غالباً ما يحيط بالظواهر ويمنح الأشياء نسَقاً نسبياً متوخياً ما قد يؤول إليه من غرَض عقليٍّ نهائيّ، وهو حديث لم يتخذ المكاشفة المعتبرة لكيان الإنسان منهجاً بِناءً على سبب اعتباطي أو عرضي، إنَّه ضرورة داخلية تفرضها عليّ طبيعتي بشكل لا يقاوَم، بل إنَّه تسخيرٌ إلهيٌّ يمكنني عبره أن أُحدّد مكاني في هذا الكون، ويجعلني المخلوق الذي هو أنا". لا أريد أنْ أسرقَ متعةَ اكتشاف القارئ، فأتحدّث له عمّا يكتنزه الكتاب، وأسهب في عرض مضامينه، لكن أودّ أن أشيرَ إلى أن قرّاءَ العربية عرفوا شلاير ماخر بوصفه المؤسسَ للهرمنيوطيقا بمعنى: فن الفهم، أو تقنية الفهم في العصر الحديث، ولم يدرسْ الباحثون رأيَه في هذا الكتاب وغيرِه من أعماله اللاحقة، الذي يغوص عبره في تحليل التجربة الدينية ويكشف عن أنها جوهرُ الدين. يدعو شلاير ماخر إلى فهمِ الدين داخلَ الدين، لأنه "في الدين وحده لا في سواه؛ ينظر المعلم المحترف والتلميذ المبتدئ إلى أفق واحد، لأن فهم الدين لا يقع خارجه". ويعلن عن تفسيره للدين "بوصفه حاجة وجودية"، والذي هو الخيط الناظم لكتابه هذا؛ إذ يقول: "إن ما يهمني هو تكريس فهم الدين بوصفه حاجة وجودية تحمل الدعوة للنظر إلى الأبدية، وكل رؤيا للأبدية توجد مستقلة ومعتمدة على ذاتها، وهي ليست بحاجة لسواها لإكمالها، لأنها جزء من سواها وكله في آن". يرتقي الدينُ لدى شلاير ماخر إلى مرتبة سامية في الحياة، عندما يصير مصدراً أساسياً للطاقة العظمى في الحياة، بوصفه تجربةً وجودية، تجعله قادراً على التعبير عن كلّ شيء، لذلك يتحدث عن الكثير من الخصائص والصفات التي يتميز بها، ويعلن عمّا يَعِدُ به من المهام، إذ يصفه بقوله: "لقد ثبت لديّ أنّ للدين أهمية لا تتجلى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنّما في مضمار التفاعل الفكري، لأنّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤى ونواميس قادرة على التعبير والإخبار عن كلّ شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح، لأنّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، وأن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود". يهتم شلاير ماخر باكتشاف الصلة العضوية بين الفن والدين، فكلّ منهما يشبع توقَ الروح للمعنى، ويؤمّن حاجتَها للجمال. ويعلن أنَّ الدينَ لا يخاف المحبة، فغايةُ الدين تعني: "أن نحب روح العالَم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها، وليس هناك أي خوف من المحبة، فالدين لا يختلف في جماله وحُسن وجوده عن سواه من قيم الجمال التي تنبثّ في ثنايا العالم، كيف لا وهو الفيض الذي يغمر الإنسان كرامة ومحبة منذ نعومة أظفاره". وكما يعتقد أن محبةَ روح العالم تنبع من الدين، كذلك يعتقد شلاير ماخر بلغة لا تخلو من الجزم أن محبةَ الآخر لا تتحقق إلّا عبر الدين. "الدين هو اللبنة الأساسية لتشييد محبة الآخر، ثمَّ إدراك القيمة العليا لتلك المحبّة كرابط جماعي لا غنى للفرد عنه؛ لأنَّه الوحيد الذي لا يفتقر بذاته إلى إمكانية تحديد مصير البشرية والاقتراب من مفهوم الإنسانية مادة للدين". إن مهمةَ الدين هي مناهضةُ الاستبداد الذي يفرض فهمَه للحقيقة، ويرسم طريقَه الخاص للوصول إليها، ويحظر أيَّ شكل للفهم لا يتطابق معها. يذهب شلاير ماخر إلى أنَّ أخطرَ ما يهدّد الدينَ هو احتكارُ الفهم وانحصارُه في فهم واحد، لأن "أهم ما في الدين هو تعدديته في الفهم وكراهيته للاستبداد، ذلك الذي يجمّد كل ما لا يتفق معه، يحجّره ظناً بأنه سيحافظ على وجوده. التعدّد هو جوهر الدين وكنهه، وعبره تتحقّق فكرة الخلاص في المسيحية، ويصبح ما يجثم على صدرها من بؤس قابلاً للزوال. لا يوجد شيء أكثر مناقضة للدين من ذلك المقوّض لقابليته لتعدد أشكال فهمه". وعلى الرغم من كشف شلاير ماخر لتعدّدية فهم الدين، التي تعني تعدّدَ تعبيراته وتمثّلاته البشرية في الحياة، غير أنه يتحدث عن الدين في الكثير من فقرات كتابه هذا من دون نقد لبعض أنواع فهمه وتمثّلاته البشرية، ومن دون تحديد دقيق لتعريفه هو للدين، وما يعنيه كلٌّ من الإيمان والتديّن لديه.
فريدريك شلاير ماخر - فريدريك دانيال إرنست شلايرماخر (بالألمانية: Friedrich Schleiermacher)‏، (تلفظ ألماني: [ˈʃlaɪɐˌmaχɐ])، (21 نوفمبر 1768 - 12 فبراير 1834) كان لاهوتي وفيلسوف وعالم الكتاب المقدس، عرف عنه محاولته التوفيق بين الانتقادات الموجهة إلى التنوير مع المسيحية البروتستانتية التقليدية. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين ❝ الناشرين : ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

وصف الكتاب : عاش شلاير ماخر "1768-1834" عصرَ الأسئلةِ الفلسفية واللاهوتية الكبرى، فقد تعرّضتْ الأدلةُ الفلسفيةُ على وجودِ الله إلى نقدٍ تقويضي في فلسفة ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرِهما من فلاسفةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النقدُ الذي تعرّض له الكتابُ المقدّس شديداً، بعد تعارُضِ بعضِ ما جاء فيه مع الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة. وظهرتْ آراءُ لمفكرين ترى أن منشأَ الحاجة البشرية للدين عواملُ معروفةٌ بوسع الإنسان التغلب عليها، ومن ثمّ الاستغناء عن الدين.

وأعلت الرُّومانْسِيَّةُ من مكانةِ المشاعر والعواطف والخيال في الأدب والفن، ولم تعبأْ بالعقل، ولم تكترثْ بالتقنيات والمعايير الكلاسيكية، ودعتْ للعودةِ إلى الطبيعة والانغمارِ فيها واتخاذِها موضوعاً للكتابة. وشدّدتْ على الانهمامِ بالذات، والبوح بما يختبئ في أعماقها من ألم وأمل، وحزن وفرح، وكآبة ومسرة. ولم تجدْ حاجةً لالتزام الأديب بالمعايير الأخلاقية، فليس بالضرورة أن يكون الأديبُ أخلاقياً. وكانتْ حياةُ الإنسان الأوروبي في ذلك الزمان قلقةً كئيبةً حزينة، إثر شدّة النزاعات، وما تركته الثورةُ الفرنسية من آثار وتداعيات.

لم يكن للدين أمامَ هذه الموجاتِ الحادّةِ من النقد، وضراوةِ الألم الذي يجتاحُ حياة الفرد والجماعة، أن يتمسكَ بمحاججاته الموروثة، ويكرّرَ اللاهوتُ دفاعاتِه المعروفةَ، بل كانت هناك ضروراتٌ تفرض على الدين أنْ يتحدثَ لغةً جديدة، يتخطى فيها منطقَ جداليات عقله اللاهوتي الذي تجاوزه العقلُ الفلسفي، ويعيدَ النظرَ في تفسير مسلّمات كتابه المقدّس التي زلزل شيئاً منها العلمُ الحديث.

في هذا الفضاء الروحي والفكري، قدّم شلاير ماخر فَهمَه للدين، وهو الخبيرُ بالفَهم الذي كان أولَ من فتحَ الطريقَ لتدشين مسارٍ جديدٍ للهرمنيوطيقا بوصفها "فهماً للفهم".

لم يتمسكْ شلاير ماخر في فهم الدين بالعقل لنقض أدلّة العقل، ولم يتمسكْ بالعلم لنقض نظريات العلم، وإنما اجترح طريقاً يتحدّث لغةً تحاكي لغةَ الشعراء، وتستوحي مخيّلةَ الفنانين، لاكتشافِ جوهر الدين وتفسيرِ وظيفتِه.كان يهمُّه التوغلُ إلى مديات عميقة في الذات البشرية، وتحليلُ طبيعة الحزن والألم واللامعنى الذي يُشقيها، وما الذي يمكن أنْ يقدّمه الدينُ لها.كان يبحث عن ذلك الدين الذي يشفي الروحَ من أمراضها، وليس ذلك الدين الذي يُمرِض الروح.

في هذا الفضاء العقلي والروحي، الذي تبلبلَ فيه تفكيرُ النخبة بشكوك مختلفة واستفهامات حائرة، ألّفَ شلاير ماخر: "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، وأصدره عام 1799، وهو كما يشي عنوانُه كتابٌ موجّه للمثقفين في عصره، ممن يراهم يحتقرون الدين. وترسَّمَ فيه نهجاً خاصاً، تتناغم فيه رؤيا شاعريةٌ للدين ببيانات مكثّفة صاغها بأسلوبه المتدفق الغزير، وصنّفها في خمسة خطابات تتناول خمسةَ موضوعات، تكلّم فيها بلغة تجمع بين الذوق والكَشْف والحدْس والتأمّل. لغة تحضر فيها صورةُ الذات وتتجلى بصيرتُها الروحية أكثر من أيّ شيء آخر.

كتاب شلاير ماخر كتاب إيماني، والكتب من هذا النوع عادة ما يحضر فيها البيانُ ويشحُّ فيها البرهان. إنه كتاب يستمع اليه القلبُ قبل أنْ تصغي إليه الأذن، يخاطب المشاعرَ قبل أنْ يحاججَ العقل. يطغى على مساحات واسعة منه أسلوبٌ وجدانيٌّ، وكأنّه قصائد منثورة تلوّنها روحانيةٌ متوهّجة، بل كأنّه نصوصٌ مقدّسة، مشبوبةٌ بالعاطفةِ وتأجيجِ المشاعر، إذ يتحسَّسُ مَنْ يستمعُ إليها صوتَ الله يتردّد في ألحان عباراتها كأوتار قيثارة تعزفُ عليها أناملُ عازفٍ محترف. ومثلُ هذا اللون من الكتابة لا ينشغل بالأدلة، بل ينشد إيقاظَ الضمير، وإثارةَ العواطف.

هذا الكتابُ تعبيرٌ عن خبرة روح تحاكي خبرةَ الأرواح الحرة المشبعة بمكاشفات صوفية، إنه كلوحة يرتسم فيها سحرُ كلمات عميقة، المُضمَرُ فيها أعمقُ دلالةً من الظاهر، والخفيُّ فيها أعمقُ غوايةً من الجليّ، والجذوةُ فيها أعمقُ حرارةً من اللّهب. إيقاعُها يتناغم فيه ما يبوحُ به قلبُ مؤمن، وما يرسمه ضميرُ عاشق، وما ينشده إنسانٌ متيّمٌ بالحبّ والخير والجمال.

إنه كتابٌ ليس لأولئك القرّاء الذين لا يقرؤون إلّا ما يقولُه العقلُ المحْض والعلم، وإنما هو لنمطٍ خاصّ من القرّاء الذين تطربهم مثلُ هذه النصوص، إنهم الجائعةُ أرواحُهم إلى ما يشبعها، والظامئةُ قلوبُهم إلى ما يرويها، والتوّاقةُ مشاعرُهم إلى ما يشحذها.

الكتاب الحقيقي هو ما يبرَعُ في كتابةِ تاريخِه الخاص، الذي يخترق فيه قيودَ الزمان، ويتخطى فيه حدودَ البيئة، ويتغلب على مضايق المكان. فيمسي كتابًا عالميًا يخاطبنا اليومَ مثلما خاطب مواطنيه في عصره وبيئته الدينية والثقافية أمس. وحسب كتاب شلاير ماخر أنّ كاتبَه كان رائياً لا يروي روايةَ الفلسفة واللاهوت والعلم لزمانه، بل كان يروي سيرةَ القلب، يروي رؤيةَ البصيرة، وأشواقَ الروح. وحسبه أنه كان تجلياً للحياة الروحية لراءٍ يتبصّر خبراتِ الروح، فيصهرها بما يتذوقه القلب، ويلوّنها بما يُلهب المشاعر، ويسكب كل ذلك على الورق.

إن شلاير ماخر، وإنْ كتب كتابَه هذا بمشاعر الشاعر، لكنّه يعترف بموازاة تلك المشاعر بشيء للعقل. فهو في الوقت الذي يشدّد فيه على استغناء الدين عن العقل والمنطق، إلا أنه يشير إلى أنّ الدينَ لا يضادّ العقل، نستمع إليه يقول: "فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية"[2].

يتلخص جوهرُ الدين وتتجلّى حقيقةُ التدين عند شلاير ماخر بالتجربة الدينية. وكأن الدينَ بمثابة المحار الذي يكتنز ما هو لؤلؤ داخلَ أصدافه، أو بمثابة الجوز الذي يحتوي ما هو لبّ داخل قشوره. فكلُّ "الأسرار المقدسة" مودعةٌ هناك في ذلك اللبّ والجوهر، وكلٌّ الشعائر والطقوس توقظ تلك "البذرةَ النائمةَ" وتستنهض الروحَ. وكلُّ ما في الدين، ما خلا الجوهر، شيءٌ ليس مطلوباً إلّا لكونه وسيلةً لتلك الحقيقة الباطنية التي تنغمس في الأعماق. يشرح ذلك بقوله: "إنني كإنسان عادي أحدّثكم عن الأسرار المقدَّسة والشيَع الغامضة للبشرية، من وجهة نظري، عن منطوق يكشف ذلك المتواري الذي أغراني للبحث عنه عندما كنت في عنفوان الشباب، عن تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في أعماقي، التي تشعرني بوجودي منذ أن بدأت بتحسّس مفاصل الحياة وقيمة الفكر، عمَّا سيبقى مقامه هو الأعلى في داخلي إلى الأبد، على اختلاف طرائق تبدّل الزمن وعوامل حراك الإنسانية. إنَّ حديثي في هذا المقام لم ينبعث من قرارات عقلانية، ولا ينبع من شعور بالأمل أو الخوف، إلا أنَّه مع ذلك غالباً ما يحيط بالظواهر ويمنح الأشياء نسَقاً نسبياً متوخياً ما قد يؤول إليه من غرَض عقليٍّ نهائيّ، وهو حديث لم يتخذ المكاشفة المعتبرة لكيان الإنسان منهجاً بِناءً على سبب اعتباطي أو عرضي، إنَّه ضرورة داخلية تفرضها عليّ طبيعتي بشكل لا يقاوَم، بل إنَّه تسخيرٌ إلهيٌّ يمكنني عبره أن أُحدّد مكاني في هذا الكون، ويجعلني المخلوق الذي هو أنا".

لا أريد أنْ أسرقَ متعةَ اكتشاف القارئ، فأتحدّث له عمّا يكتنزه الكتاب، وأسهب في عرض مضامينه، لكن أودّ أن أشيرَ إلى أن قرّاءَ العربية عرفوا شلاير ماخر بوصفه المؤسسَ للهرمنيوطيقا بمعنى: فن الفهم، أو تقنية الفهم في العصر الحديث، ولم يدرسْ الباحثون رأيَه في هذا الكتاب وغيرِه من أعماله اللاحقة، الذي يغوص عبره في تحليل التجربة الدينية ويكشف عن أنها جوهرُ الدين.

يدعو شلاير ماخر إلى فهمِ الدين داخلَ الدين، لأنه "في الدين وحده لا في سواه؛ ينظر المعلم المحترف والتلميذ المبتدئ إلى أفق واحد، لأن فهم الدين لا يقع خارجه". ويعلن عن تفسيره للدين "بوصفه حاجة وجودية"، والذي هو الخيط الناظم لكتابه هذا؛ إذ يقول: "إن ما يهمني هو تكريس فهم الدين بوصفه حاجة وجودية تحمل الدعوة للنظر إلى الأبدية، وكل رؤيا للأبدية توجد مستقلة ومعتمدة على ذاتها، وهي ليست بحاجة لسواها لإكمالها، لأنها جزء من سواها وكله في آن".

يرتقي الدينُ لدى شلاير ماخر إلى مرتبة سامية في الحياة، عندما يصير مصدراً أساسياً للطاقة العظمى في الحياة، بوصفه تجربةً وجودية، تجعله قادراً على التعبير عن كلّ شيء، لذلك يتحدث عن الكثير من الخصائص والصفات التي يتميز بها، ويعلن عمّا يَعِدُ به من المهام، إذ يصفه بقوله: "لقد ثبت لديّ أنّ للدين أهمية لا تتجلى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنّما في مضمار التفاعل الفكري، لأنّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤى ونواميس قادرة على التعبير والإخبار عن كلّ شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح، لأنّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، وأن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود".

يهتم شلاير ماخر باكتشاف الصلة العضوية بين الفن والدين، فكلّ منهما يشبع توقَ الروح للمعنى، ويؤمّن حاجتَها للجمال. ويعلن أنَّ الدينَ لا يخاف المحبة، فغايةُ الدين تعني: "أن نحب روح العالَم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها، وليس هناك أي خوف من المحبة، فالدين لا يختلف في جماله وحُسن وجوده عن سواه من قيم الجمال التي تنبثّ في ثنايا العالم، كيف لا وهو الفيض الذي يغمر الإنسان كرامة ومحبة منذ نعومة أظفاره".

وكما يعتقد أن محبةَ روح العالم تنبع من الدين، كذلك يعتقد شلاير ماخر بلغة لا تخلو من الجزم أن محبةَ الآخر لا تتحقق إلّا عبر الدين. "الدين هو اللبنة الأساسية لتشييد محبة الآخر، ثمَّ إدراك القيمة العليا لتلك المحبّة كرابط جماعي لا غنى للفرد عنه؛ لأنَّه الوحيد الذي لا يفتقر بذاته إلى إمكانية تحديد مصير البشرية والاقتراب من مفهوم الإنسانية مادة للدين".

إن مهمةَ الدين هي مناهضةُ الاستبداد الذي يفرض فهمَه للحقيقة، ويرسم طريقَه الخاص للوصول إليها، ويحظر أيَّ شكل للفهم لا يتطابق معها. يذهب شلاير ماخر إلى أنَّ أخطرَ ما يهدّد الدينَ هو احتكارُ الفهم وانحصارُه في فهم واحد، لأن "أهم ما في الدين هو تعدديته في الفهم وكراهيته للاستبداد، ذلك الذي يجمّد كل ما لا يتفق معه، يحجّره ظناً بأنه سيحافظ على وجوده. التعدّد هو جوهر الدين وكنهه، وعبره تتحقّق فكرة الخلاص في المسيحية، ويصبح ما يجثم على صدرها من بؤس قابلاً للزوال. لا يوجد شيء أكثر مناقضة للدين من ذلك المقوّض لقابليته لتعدد أشكال فهمه".

وعلى الرغم من كشف شلاير ماخر لتعدّدية فهم الدين، التي تعني تعدّدَ تعبيراته وتمثّلاته البشرية في الحياة، غير أنه يتحدث عن الدين في الكثير من فقرات كتابه هذا من دون نقد لبعض أنواع فهمه وتمثّلاته البشرية، ومن دون تحديد دقيق لتعريفه هو للدين، وما يعنيه كلٌّ من الإيمان والتديّن لديه.


للكاتب/المؤلف : فريدريك شلاير ماخر .
دار النشر : دار التنوير للطباعة والنشر .
سنة النشر : 2017م / 1438هـ .
عدد مرات التحميل : 1462 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الأحد , 17 أبريل 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

عاش شلاير ماخر "1768-1834" عصرَ الأسئلةِ الفلسفية واللاهوتية الكبرى، فقد تعرّضتْ الأدلةُ الفلسفيةُ على وجودِ الله إلى نقدٍ تقويضي في فلسفة ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرِهما من فلاسفةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النقدُ الذي تعرّض له الكتابُ المقدّس شديداً، بعد تعارُضِ بعضِ ما جاء فيه مع الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة. وظهرتْ آراءُ لمفكرين ترى أن منشأَ الحاجة البشرية للدين عواملُ معروفةٌ بوسع الإنسان التغلب عليها، ومن ثمّ الاستغناء عن الدين.

وأعلت الرُّومانْسِيَّةُ من مكانةِ المشاعر والعواطف والخيال في الأدب والفن، ولم تعبأْ بالعقل، ولم تكترثْ بالتقنيات والمعايير الكلاسيكية، ودعتْ للعودةِ إلى الطبيعة والانغمارِ فيها واتخاذِها موضوعاً للكتابة. وشدّدتْ على الانهمامِ بالذات، والبوح بما يختبئ في أعماقها من ألم وأمل، وحزن وفرح، وكآبة ومسرة. ولم تجدْ حاجةً لالتزام الأديب بالمعايير الأخلاقية، فليس بالضرورة أن يكون الأديبُ أخلاقياً. وكانتْ حياةُ الإنسان الأوروبي في ذلك الزمان قلقةً كئيبةً حزينة، إثر شدّة النزاعات، وما تركته الثورةُ الفرنسية من آثار وتداعيات.

لم يكن للدين أمامَ هذه الموجاتِ الحادّةِ من النقد، وضراوةِ الألم الذي يجتاحُ حياة الفرد والجماعة، أن يتمسكَ بمحاججاته الموروثة، ويكرّرَ اللاهوتُ دفاعاتِه المعروفةَ، بل كانت هناك ضروراتٌ تفرض على الدين أنْ يتحدثَ لغةً جديدة، يتخطى فيها منطقَ جداليات عقله اللاهوتي الذي تجاوزه العقلُ الفلسفي، ويعيدَ النظرَ في تفسير مسلّمات كتابه المقدّس التي زلزل شيئاً منها العلمُ الحديث.

في هذا الفضاء الروحي والفكري، قدّم شلاير ماخر فَهمَه للدين، وهو الخبيرُ بالفَهم الذي كان أولَ من فتحَ الطريقَ لتدشين مسارٍ جديدٍ للهرمنيوطيقا بوصفها "فهماً للفهم".

لم يتمسكْ شلاير ماخر في فهم الدين بالعقل لنقض أدلّة العقل، ولم يتمسكْ بالعلم لنقض نظريات العلم، وإنما اجترح طريقاً يتحدّث لغةً تحاكي لغةَ الشعراء، وتستوحي مخيّلةَ الفنانين، لاكتشافِ جوهر الدين وتفسيرِ وظيفتِه.كان يهمُّه التوغلُ إلى مديات عميقة في الذات البشرية، وتحليلُ طبيعة الحزن والألم واللامعنى الذي يُشقيها، وما الذي يمكن أنْ يقدّمه الدينُ لها.كان يبحث عن ذلك الدين الذي يشفي الروحَ من أمراضها، وليس ذلك الدين الذي يُمرِض الروح.

في هذا الفضاء العقلي والروحي، الذي تبلبلَ فيه تفكيرُ النخبة بشكوك مختلفة واستفهامات حائرة، ألّفَ شلاير ماخر: "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، وأصدره عام 1799، وهو كما يشي عنوانُه كتابٌ موجّه للمثقفين في عصره، ممن يراهم يحتقرون الدين. وترسَّمَ فيه نهجاً خاصاً، تتناغم فيه رؤيا شاعريةٌ للدين ببيانات مكثّفة صاغها بأسلوبه المتدفق الغزير، وصنّفها في خمسة خطابات تتناول خمسةَ موضوعات، تكلّم فيها بلغة تجمع بين الذوق والكَشْف والحدْس والتأمّل. لغة تحضر فيها صورةُ الذات وتتجلى بصيرتُها الروحية أكثر من أيّ شيء آخر.

كتاب شلاير ماخر كتاب إيماني، والكتب من هذا النوع عادة ما يحضر فيها البيانُ ويشحُّ فيها البرهان. إنه كتاب يستمع اليه القلبُ قبل أنْ تصغي إليه الأذن، يخاطب المشاعرَ قبل أنْ يحاججَ العقل. يطغى على مساحات واسعة منه أسلوبٌ وجدانيٌّ، وكأنّه قصائد منثورة تلوّنها روحانيةٌ متوهّجة، بل كأنّه نصوصٌ مقدّسة، مشبوبةٌ بالعاطفةِ وتأجيجِ المشاعر، إذ يتحسَّسُ مَنْ يستمعُ إليها صوتَ الله يتردّد في ألحان عباراتها كأوتار قيثارة تعزفُ عليها أناملُ عازفٍ محترف. ومثلُ هذا اللون من الكتابة لا ينشغل بالأدلة، بل ينشد إيقاظَ الضمير، وإثارةَ العواطف.

هذا الكتابُ تعبيرٌ عن خبرة روح تحاكي خبرةَ الأرواح الحرة المشبعة بمكاشفات صوفية، إنه كلوحة يرتسم فيها سحرُ كلمات عميقة، المُضمَرُ فيها أعمقُ دلالةً من الظاهر، والخفيُّ فيها أعمقُ غوايةً من الجليّ، والجذوةُ فيها أعمقُ حرارةً من اللّهب. إيقاعُها يتناغم فيه ما يبوحُ به قلبُ مؤمن، وما يرسمه ضميرُ عاشق، وما ينشده إنسانٌ متيّمٌ بالحبّ والخير والجمال.

إنه كتابٌ ليس لأولئك القرّاء الذين لا يقرؤون إلّا ما يقولُه العقلُ المحْض والعلم، وإنما هو لنمطٍ خاصّ من القرّاء الذين تطربهم مثلُ هذه النصوص، إنهم الجائعةُ أرواحُهم إلى ما يشبعها، والظامئةُ قلوبُهم إلى ما يرويها، والتوّاقةُ مشاعرُهم إلى ما يشحذها.

الكتاب الحقيقي هو ما يبرَعُ في كتابةِ تاريخِه الخاص، الذي يخترق فيه قيودَ الزمان، ويتخطى فيه حدودَ البيئة، ويتغلب على مضايق المكان. فيمسي كتابًا عالميًا يخاطبنا اليومَ مثلما خاطب مواطنيه في عصره وبيئته الدينية والثقافية أمس. وحسب كتاب شلاير ماخر أنّ كاتبَه كان رائياً لا يروي روايةَ الفلسفة واللاهوت والعلم لزمانه، بل كان يروي سيرةَ القلب، يروي رؤيةَ البصيرة، وأشواقَ الروح. وحسبه أنه كان تجلياً للحياة الروحية لراءٍ يتبصّر خبراتِ الروح، فيصهرها بما يتذوقه القلب، ويلوّنها بما يُلهب المشاعر، ويسكب كل ذلك على الورق.

إن شلاير ماخر، وإنْ كتب كتابَه هذا بمشاعر الشاعر، لكنّه يعترف بموازاة تلك المشاعر بشيء للعقل. فهو في الوقت الذي يشدّد فيه على استغناء الدين عن العقل والمنطق، إلا أنه يشير إلى أنّ الدينَ لا يضادّ العقل، نستمع إليه يقول: "فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية"[2].

يتلخص جوهرُ الدين وتتجلّى حقيقةُ التدين عند شلاير ماخر بالتجربة الدينية. وكأن الدينَ بمثابة المحار الذي يكتنز ما هو لؤلؤ داخلَ أصدافه، أو بمثابة الجوز الذي يحتوي ما هو لبّ داخل قشوره. فكلُّ "الأسرار المقدسة" مودعةٌ هناك في ذلك اللبّ والجوهر، وكلٌّ الشعائر والطقوس توقظ تلك "البذرةَ النائمةَ" وتستنهض الروحَ. وكلُّ ما في الدين، ما خلا الجوهر، شيءٌ ليس مطلوباً إلّا لكونه وسيلةً لتلك الحقيقة الباطنية التي تنغمس في الأعماق. يشرح ذلك بقوله: "إنني كإنسان عادي أحدّثكم عن الأسرار المقدَّسة والشيَع الغامضة للبشرية، من وجهة نظري، عن منطوق يكشف ذلك المتواري الذي أغراني للبحث عنه عندما كنت في عنفوان الشباب، عن تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في أعماقي، التي تشعرني بوجودي منذ أن بدأت بتحسّس مفاصل الحياة وقيمة الفكر، عمَّا سيبقى مقامه هو الأعلى في داخلي إلى الأبد، على اختلاف طرائق تبدّل الزمن وعوامل حراك الإنسانية. إنَّ حديثي في هذا المقام لم ينبعث من قرارات عقلانية، ولا ينبع من شعور بالأمل أو الخوف، إلا أنَّه مع ذلك غالباً ما يحيط بالظواهر ويمنح الأشياء نسَقاً نسبياً متوخياً ما قد يؤول إليه من غرَض عقليٍّ نهائيّ، وهو حديث لم يتخذ المكاشفة المعتبرة لكيان الإنسان منهجاً بِناءً على سبب اعتباطي أو عرضي، إنَّه ضرورة داخلية تفرضها عليّ طبيعتي بشكل لا يقاوَم، بل إنَّه تسخيرٌ إلهيٌّ يمكنني عبره أن أُحدّد مكاني في هذا الكون، ويجعلني المخلوق الذي هو أنا".

لا أريد أنْ أسرقَ متعةَ اكتشاف القارئ، فأتحدّث له عمّا يكتنزه الكتاب، وأسهب في عرض مضامينه، لكن أودّ أن أشيرَ إلى أن قرّاءَ العربية عرفوا شلاير ماخر بوصفه المؤسسَ للهرمنيوطيقا بمعنى: فن الفهم، أو تقنية الفهم في العصر الحديث، ولم يدرسْ الباحثون رأيَه في هذا الكتاب وغيرِه من أعماله اللاحقة، الذي يغوص عبره في تحليل التجربة الدينية ويكشف عن أنها جوهرُ الدين.

يدعو شلاير ماخر إلى فهمِ الدين داخلَ الدين، لأنه "في الدين وحده لا في سواه؛ ينظر المعلم المحترف والتلميذ المبتدئ إلى أفق واحد، لأن فهم الدين لا يقع خارجه". ويعلن عن تفسيره للدين "بوصفه حاجة وجودية"، والذي هو الخيط الناظم لكتابه هذا؛ إذ يقول: "إن ما يهمني هو تكريس فهم الدين بوصفه حاجة وجودية تحمل الدعوة للنظر إلى الأبدية، وكل رؤيا للأبدية توجد مستقلة ومعتمدة على ذاتها، وهي ليست بحاجة لسواها لإكمالها، لأنها جزء من سواها وكله في آن".

يرتقي الدينُ لدى شلاير ماخر إلى مرتبة سامية في الحياة، عندما يصير مصدراً أساسياً للطاقة العظمى في الحياة، بوصفه تجربةً وجودية، تجعله قادراً على التعبير عن كلّ شيء، لذلك يتحدث عن الكثير من الخصائص والصفات التي يتميز بها، ويعلن عمّا يَعِدُ به من المهام، إذ يصفه بقوله: "لقد ثبت لديّ أنّ للدين أهمية لا تتجلى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنّما في مضمار التفاعل الفكري، لأنّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤى ونواميس قادرة على التعبير والإخبار عن كلّ شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح، لأنّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، وأن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود".

يهتم شلاير ماخر باكتشاف الصلة العضوية بين الفن والدين، فكلّ منهما يشبع توقَ الروح للمعنى، ويؤمّن حاجتَها للجمال. ويعلن أنَّ الدينَ لا يخاف المحبة، فغايةُ الدين تعني: "أن نحب روح العالَم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها، وليس هناك أي خوف من المحبة، فالدين لا يختلف في جماله وحُسن وجوده عن سواه من قيم الجمال التي تنبثّ في ثنايا العالم، كيف لا وهو الفيض الذي يغمر الإنسان كرامة ومحبة منذ نعومة أظفاره".

وكما يعتقد أن محبةَ روح العالم تنبع من الدين، كذلك يعتقد شلاير ماخر بلغة لا تخلو من الجزم أن محبةَ الآخر لا تتحقق إلّا عبر الدين. "الدين هو اللبنة الأساسية لتشييد محبة الآخر، ثمَّ إدراك القيمة العليا لتلك المحبّة كرابط جماعي لا غنى للفرد عنه؛ لأنَّه الوحيد الذي لا يفتقر بذاته إلى إمكانية تحديد مصير البشرية والاقتراب من مفهوم الإنسانية مادة للدين".

إن مهمةَ الدين هي مناهضةُ الاستبداد الذي يفرض فهمَه للحقيقة، ويرسم طريقَه الخاص للوصول إليها، ويحظر أيَّ شكل للفهم لا يتطابق معها. يذهب شلاير ماخر إلى أنَّ أخطرَ ما يهدّد الدينَ هو احتكارُ الفهم وانحصارُه في فهم واحد، لأن "أهم ما في الدين هو تعدديته في الفهم وكراهيته للاستبداد، ذلك الذي يجمّد كل ما لا يتفق معه، يحجّره ظناً بأنه سيحافظ على وجوده. التعدّد هو جوهر الدين وكنهه، وعبره تتحقّق فكرة الخلاص في المسيحية، ويصبح ما يجثم على صدرها من بؤس قابلاً للزوال. لا يوجد شيء أكثر مناقضة للدين من ذلك المقوّض لقابليته لتعدد أشكال فهمه".

وعلى الرغم من كشف شلاير ماخر لتعدّدية فهم الدين، التي تعني تعدّدَ تعبيراته وتمثّلاته البشرية في الحياة، غير أنه يتحدث عن الدين في الكثير من فقرات كتابه هذا من دون نقد لبعض أنواع فهمه وتمثّلاته البشرية، ومن دون تحديد دقيق لتعريفه هو للدين، وما يعنيه كلٌّ من الإيمان والتديّن لديه.

يسوق شلاير ماخر كلمةَ الدين بتعميم تلتقي فيه كلُّ أشكال المديح والتبجيل، ويوكل إليه إنجازَ مختلف المهام السامية، حتى يصبح الدينُ مستودعاً لكلّ الأخلاق الفاضلة، وكلّ ما من شأنه التسامي بمكانة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته.

يضع شلاير ماخر الدينَ في سياق رهانات الحياة الجديدة، ويجعله الطريقَ الأمثل للصلة العضوية بالحياة، وكأنه مثابةٌ لما هو جديد، إذ يرى أن: "الدين ليس فكرة خسرت رهانها في الحاضر ولم يتبقَ لها غير الاستحواذ على الماضي القديم بدعوى أنّه منزلها الحقيقي، وإنّما هي فكرة قادرة على الانعطاف بنفسها نحو الجديد، لأنّها لا ترتابه أو تتجنّبه. الدين هو أفضل طرق الاتصال بالحياة".

مع أنه يعلن أن مفهومَه للدين إنما يختصّ بالدين الذي يتضمن اعتقاداً بإله، إذ يصرّح: (وتبعاً لوجهة نظري، وبموجب فهمي للإيمان الذي تعرفون "لا وجود للدين بغير إله"، ولا يمكن لأيِّ شيء أن يكون من دونه). وإذا كان "لا وجود للدين بغير إله" فلا وجودَ لدين بلا إنسان، ولا وجودَ لدين بلا حضور في حياة الفرد والمجتمع، ويتماهى ذلك الحضورُ بما يكون عليه كلٌّ منهما، من حيثُ ثقافته أو من حيث ظروف عيشِه المتنوعة، فحيثما يكونُ الإنسانُ يكون دينُه، وحيثما يكونُ الدينُ يكونُ الإنسان. ويعرفُ شلاير ماخر جيداً أولئك الكهنةَ الذين يرتزقون بالدين وينتهكون قِيمَه ويعبثون بمراميه السامية، ممن أشار اليهم في ثنايا كتابه.

يستعمل شلاير ماخر عباراتٍ يتداخل فيها الشعرُ المنثور بالوعظ، وكأنّه كاهنٌ بليغٌ لا يكفُّ عن صبّ عِظاتِه الحماسية على رؤوس رعيته، ولحنُ صوته يصدحُ بالثقة والصرامة، ولا يريدُ من المستمعين إلا التسليمَ بما تقوله عِظاتُه، وهو يعلن الاستغناءَ عن حاجته للحجج العقلية، ويصرّح بأنّ الدينَ لا يحتاج الاستدلالات المنطقية.

ولا تخلو كلماتُه من توبيخٍ لمن يراهم مناهضين للدين من مثقفي عصره. فهو يقول مثلاً: "أيعقل أن تستمرئوا احتقار هذا الاتجاه الروحي إلى الأبد، أيمكن أن يبدو لكم كل ما هو مهمٌ للإنسان سخيفاً؟ وتأسيساً على كل ما تقدّم من نقاط لا بد لي أن أقول إنَّ احتقاركم للدين هو نتاج لطبيعة خاصة بكم، وماذا عساني أن أقول أكثر من ذلك!". وحتى العنوان الشارح لكتابه هذا يستعمل فيه كلمة "محتقريه"، وكنت أتمنى أنْ يستعملَ المؤلِّفُ في عنوان كتابه عبارةَ: "خطابات لنقّاده من المثقفين"، بدلاً من: "خطابات لمحتقريه من المثقفين"، لأن كلمةَ "احتقار" تستبطن معنى الازدراء والامتهان والإهانة والتوبيخ، وتشي بمضمون لا يخلو من تسلّط، وإن كانت كلماتُ الازدراء والتسلّط مألوفةً في لغة الوعّاظ والكهنة. وهذه المعاني لا تلتقي ومعنى "مثقف"، ولا تليقُ به، فكما ينشد هو أنْ يكونَ المثقفُ أخلاقياً مهذّباً يُفترض بكتاباته أنْ تكونَ كذلك. ومعنى "مثقف" يستبطن "النقدَ" لا "الاحتقار".



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين
فريدريك شلاير ماخر
فريدريك شلاير ماخر
Friedrich Schleier macher
فريدريك دانيال إرنست شلايرماخر (بالألمانية: Friedrich Schleiermacher)‏، (تلفظ ألماني: [ˈʃlaɪɐˌmaχɐ])، (21 نوفمبر 1768 - 12 فبراير 1834) كان لاهوتي وفيلسوف وعالم الكتاب المقدس، عرف عنه محاولته التوفيق بين الانتقادات الموجهة إلى التنوير مع المسيحية البروتستانتية التقليدية. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين ❝ الناشرين : ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❱.



كتب اخرى في الفكر والفلسفة

اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعاريف و الكليات) PDF

قراءة و تحميل كتاب اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعاريف و الكليات) PDF مجانا

علمنة علم النفس وتجربتي في علاج الاكتئاب PDF

قراءة و تحميل كتاب علمنة علم النفس وتجربتي في علاج الاكتئاب PDF مجانا

دينامية النص (تنظير وانجاز) PDF

قراءة و تحميل كتاب دينامية النص (تنظير وانجاز) PDF مجانا

الدين والظمأ الأنطولوجي PDF

قراءة و تحميل كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي PDF مجانا

القرآن الكريم في روسيا PDF

قراءة و تحميل كتاب القرآن الكريم في روسيا PDF مجانا

دراسات في تاريخ علم الكلام والفلسفة PDF

قراءة و تحميل كتاب دراسات في تاريخ علم الكلام والفلسفة PDF مجانا

بنات إبراهيم: الفكر النسوي في اليهودية، والمسيحية، والإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب بنات إبراهيم: الفكر النسوي في اليهودية، والمسيحية، والإسلام PDF مجانا

موسوعة علم الكلام الوسيط المعاصر PDF

قراءة و تحميل كتاب موسوعة علم الكلام الوسيط المعاصر PDF مجانا

المزيد من الفكر والفلسفة في مكتبة الفكر والفلسفة , المزيد من النجاح وتطوير الذات في مكتبة النجاح وتطوير الذات , المزيد من مقارنة الأديان في مكتبة مقارنة الأديان , المزيد من السياسة في مكتبة السياسة , المزيد من علم النفس في مكتبة علم النفس , المزيد من الهندسة الشاملة في مكتبة الهندسة الشاملة , المزيد من محمد صلى الله عليه وسلم في مكتبة محمد صلى الله عليه وسلم , المزيد من أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية في مكتبة أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية , المزيد من غير مصنفة في مكتبة غير مصنفة
عرض كل المكتبة التجريبية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..